الجامعة والفراغ القيمي: في الحاجة إلى مداخل فكرية لبناء نسق قيمي (وجهة نظر)
القيم، التعليم الجامعي
لا تستقيم نهضةٌ ولا يستقر عمران، إلا حينما تنتظم المجتمعات ضمن نسقٍ قيميّ موحَّد، تتلاقى عنده العقول، وتتوحد في ضوئه السلوكيات والمواقف، وتتشكل وفقه الرؤى والتصورات. فحيثما اجتمعت منظومة فكرية تستند إلى قيم راسخة ومشتركة، ساد الأمن الفكري، واستقام البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، واطمأن الناس إلى مرجعياتهم وهويتهم. أما حين يغيب هذا النسق، وتتنازع المجتمع مرجعيات متضاربة، يغدو الفرد حائرًا، والمؤسسة مضطربة، وتفقد الأمة قدرتها على التماسك في وجه التحديات.
ومنذ أن عرف الإنسان الاجتماع البشري، ظلّ الوسط الأسري والمحيط المجتمعي العام خزّانًا تتوارث الأجيال من خلاله القيم، إما مستمدة من منظومة دينية موروثة، أو مكتسبة من التجربة اليومية والعرف الاجتماعي. غير أن التحولات المتسارعة في سياق التدافع الحضاري المعاصر، وما رافقها من صدام الهويات واختراق الثقافات، دفعت المجتمعات الحديثة إلى استشعار أهمية إعادة بناء المنظومة القيمية، لا باعتبارها ترفًا فكريًا أو شعارًا أخلاقيًا عابرًا، بل بوصفها ركيزة وجودية لضمان الاستمرار الحضاري، ومقومًا ضروريًا في ترشيد المعرفة والعلم.
من هنا، اتجهت مؤسسات التربية والتكوين، في كثير من دول العالم، إلى إدراج التربية القيمية ضمن مناهجها وبرامجها التعليمية، مستهدفة النشء بمراحله العمرية المختلفة، باعتباره الحامل الحقيقي لمشعل الإصلاح وصانع ملامح المستقبل. وقد كان للمغرب نصيبه من هذا التوجّه، إذ أصدر المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي ورقة تأطيرية وازنة بعنوان:”التربية على القيم بالمنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي”، كما جاءت وثيقة “الإصلاح البيداغوجي في أربعين سؤالًا” مؤكدة هذا المسعى، حيث خُصّص سؤالٌ صريح عن مكانة القيم الثقافية والإسلامية في الجامعة المغربية، وأُقرّ فيه بدور الجامعة في تنمية هذه القيم، بل وتحمل مسؤولية نشرها وتعزيزها.
وإن كان الاشتغال القيمي في التعليم ما قبل الجامعي يجد مسالكه ميسورة نسبيًا، بالنظر إلى خصائص المتعلم النفسية والعقلية في تلك المراحل، فقد بادرت الوثائق الإصلاحية إلى التنظير له ضمن البرامج والمناهج الدراسية، وإن ظل هذا التناول في كثير من جوانبه محتشمًا، يفتقر إلى الشمول والعمق. بيد أن الصورة في التعليم العالي تبدو أشد قتامة، إذ تغيب البرامج والمناهج، بل حتى الأوراق التأطيرية التي تعنى بالتربية القيمية في الوسط الجامعي، وكأن القيم تتوقف صلاحيتها عند عتبة التعليم الثانوي.
هذا الغياب المقلق يدفع إلى طرح جملة من الأسئلة الجوهرية: هل اعتقد صانع القرار التربوي والمثقف الجامعي أن الطالب الجامعي قد بلغ من النضج العقلي والأخلاقي مبلغًا يجعله في غنى عن التأطير القيمي؟ أم أن الجامعة باتت تنأى بنفسها عن الاشتغال على منظومة القيم، مكتفية بوظيفتها المعرفية التقنية؟ أم أن الأمر يعكس قصورًا في الوعي بأهمية البعد القيمي في تكوين النخب وصناعة القيادات الفكرية والمجتمعية؟
إن هذه الأسئلة — وغيرها — تحفزنا اليوم إلى إعادة النظر في هذه القضية الحيوية، لا من باب التشخيص العابر، ولا التنظير المجرد، بل من خلال مقاربة نقدية تستهدف اقتراح مداخل عملية يمكن أن تسهم في بناء منظومة قيمية فاعلة داخل الجامعة المغربية، تأخذ بعين الاعتبار:
- المدخل الأول: الخصائص العقلية والنفسية للطالب الجامعي، وطبيعة استعداده لتلقي القيم وإعادة إنتاجها.
- المدخل الثاني: خصوصية المعرفة الجامعية، وعلاقتها بالمبادئ الأخلاقية، وحدود تأثيرها في بناء منظومة قيمية متوازنة.
- المدخل الثالث: الأنشطة العلمية والثقافية بالجامعة، وإمكانات استثمارها كأدوات وظيفية لبناء وترسيخ القيم في الوسط الجامعي.
إن الجامعة اليوم، وقد باتت تعاني من فراغ قيمي واضح، مدعوةٌ إلى تجاوز حالة الاستقالة الصامتة من مسؤوليتها الأخلاقية، واستئناف دورها في صناعة النخبة المتشبعة بقيم حضارية أصيلة، قادرة على قيادة المجتمع نحو آفاق أكثر عدلًا، ووعيًا، وإنسانية.