من كأس الخمر إلى دمعة التوبة

من كأس الخمر إلى دمعة التوبة

أخذت أحداث هذه القصة من كتاب مصطفى صادق الرافعي: «وحي القلم»، غير أنّها سُردت هنا بلغة مبسّطة وأسلوب خطابي أدبي يناسب القارئ العام والتشكيل التام وكثير من التصرف في السرد والإخراج.

(1)الشيخُ وَدَمْعَةُ الْمَجْلِسِ

كانَ مالِكُ بْنُ دِينَارٍ، زاهِدَ البَصْرَةِ وَواعِظَها، يَكْتَسِبُ رِزْقَهُ مِنْ نَسْخِ المَصاحِفِ بِيَدِهِ، عَفِيفًا عَنْ مَدِّ يَدِهِ لِغَيْرِ ما كَدٍّ وَتَعَبٍ. وحينَ فَرَغَ يَوْمًا مِنْ كِتابَةِ مُصْحَفٍ جَدِيدٍ، خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ العَصْرَ، ثُمَّ أَطالَ بَعْدَهُ رُكُوعًا وَسُجُودًا كَأَنَّما يَسْكُبُ قَلْبَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ.

فَلَمّا انْتَهى، جَلَسَ عِنْدَ سَارِيَةٍ اعْتادَها، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النّاسُ حَلَقاتٍ مُتَتابِعَةً حَتّى امْتَلأَ بِهِمُ المَسْجِدُ. نَظَرَ إِلَيْهِمُ الشَّيْخُ نَظْرَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ خَفَضَ عَيْنَيْهِ فِي خُشُوعٍ عَمِيقٍ، وَسَكَنَ المَجْلِسُ سُكُونًا كَأَنَّ الطَّيْرَ حَطَّتْ عَلى رُؤُوسِ القَوْمِ مَهاَبَةً لَهُ وَإجْلالًا. وَبَعْدَ لَحْظَةٍ، رَفَعَ رَأْسَهُ وَعَيْنَاهُ تَلْمَعانِ بِدُمُوعٍ رَقَّتْ لَها القُلُوبُ، فَأَضاءَ وَجْهُهُ كَفَجْرٍ جَدِيدٍ يُشْرِقُ عَلَى الأَرْواحِ بِنَداهُ.

وَبَيْنَما المَجْلِسُ سَاكِنٌ وَالأَنْفاسُ مَحْبُوسَةٌ، بادَرَ شابٌّ مِنْ بَيْنِ الحاضِرِينَ وَقالَ: ما الَّذِي أَبْكَى الشَّيْخَ؟

رَفَعَ مالِكٌ بَصَرَهُ إِلَيْهِ، وَأَطالَ النَّظَرَ فِي وَجْهِهِ كَأَنَّهُ يَرَى فِيهِ صُورَةَ شَبابِهِ، ثُمَّ سَكَتَ هُنَيْهَةً، وَكَأَنَّ لِسانَهُ انْعَقَدَ مِنْ أَثَرِ حالٍ داخِلَهُ. تَعَجَّبَ النّاسُ، فَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا عَنْ شَيْخِهِمْ تَرَدُّدًا فِي الجَوابِ، وَلا صَمْتًا أَمامَ سُؤالٍ، فَقالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: لا بُدَّ أَنَّ وَراءَ حَبْسَتِهِ هذِهِ سِرًّا عَظِيمًا.

ثُمَّ تَبَسَّمَ مالِكٌ وَقالَ: ذَكَرْتُ ذِكْرَى أَبْكَتْنِي، وَرَأَيْتُ رُؤْيا أَضْحَكَتْنِي. أَمّا الذِّكْرَى: فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هذَا المَسْجِدَ — مَعَ سَعَتِهِ وَامْتِلائِهِ — قَدْ خَلا يَوْمًا مِنْ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ؟

قالوا: ما نَعْلَمُ.

قال: بَلى، قَدْ كانَ ذَلِكَ يَوْمَ ماتَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ. ماتَ عَشِيَّةَ الخَمِيسِ، وَحُمِلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَخَرَجَ أَهْلُ البَصْرَةِ كُلُّهُمْ فِي جِنازَتِهِ حَتّى لَمْ يُقَمْ فِي هذَا المَسْجِدِ عَصْرُ ذَلِكَ اليَوْمِ. لَقَدْ كانَ مَوْتُ الحَسَنِ مَوْتًا لِلْبَصْرَةِ بِأَسْرِها؛ فَقَدْ بَدَتِ الدُّنْيا صَغِيرَةً لا تَعْدِلُ حُفْرَةَ قَبْرٍ، وَظَهَرَ المَوْتُ يَوْمَها فِي هَيْبَةٍ لَمْ نَرَ مِثْلَها قَطُّ.

ثُمَّ قالَ مالِكٌ: ذَلِكَ هُوَ ذِكْرَى المَوْتِ الَّذِي أَبْكانِي. وَأَمَّا الرُّؤْيا الَّتِي أَضْحَكَتْنِي، فَهِيَ أَنِّي رَأَيْتُ فِي وَجْهِ هذَا الفَتى صُورَةَ شَبابِي يَوْمَ كُنْتُ يافِعًا، كَأَنَّما بُعِثْتُ مِنْ جَدِيدٍ بَعْدَ مَوْتٍ. وَإنِّي سَأَقُصُّ عَلَيْكُمْ مِنْ أَيّامِي خَبَرًا لَمْ تَعْلَمُوهُ عَنِّي، لِتُوقِنُوا أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبَةٌ مِنْ عِبادِهِ، فَلا يَيْأَسْ ضَعِيفٌ، وَلا يَقْنَطْ مُذْنِبٌ.

(2)الْمَاضِي قَبْلَ التَّوْبَةِ

وَسَكَتَ لَحْظَةً، ثُمَّ أَضافَ: كُنْتُ فِي بِداياتِ عُمْرِي شُرْطِيًّا غَلِيظًا، قَوِيَّ الشَّكِيمَةِ، لا يَعْرِفُ قَلْبِي رَحْمَةً وَلا رِقَّةً. وَكُنْتُ مُدْمِنًا عَلَى الخَمْرِ، أَجِدُ فِيهَا مَا يَظُنُّهُ الشَّيْطَانُ لَذَّةً وَرُوحًا، وَهِيَ فِي حَقِيقَتِهَا وَهْمٌ وَغُرُورٌ. فَلَمْ يَكُنْ فِي حَيَاتِي آنَذَاكَ ضَابِطٌ مِنْ تَقْوًى وَلا وَازِعٌ مِنْ إِيمَانٍ.

قالَ مالِكٌ: «وَبَيْنَما أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ أَرْقُبُ النَّاسَ وَأَحْفَظُ النِّظَامَ، إِذَا بِرَجُلَيْنِ يَتَشاجَرانِ، وَقَدْ أَمْسَكَ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ. فَدَنَوْتُ مِنْهُمَا أُرِيدُ الفَصْلَ بَيْنَهُمَا، فَسَمِعْتُ المَظْلُومَ يَقُولُ لِخَصْمِهِ: لَقَدْ سَلَبْتَنِي فَرَحَ بُنَيَّاتِي، وَسَيَدْعُونَ اللهَ عَلَيْكَ فَلا تَرَى بَعْدَهَا خَيْرًا، وَمَا خَرَجْتُ إِلَّا لِأَتَّبِعَ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ: مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَخَصَّ بِهِ بَنَاتِهِ نَظَرَ اللهُ إِلَيْهِ».

ثُمَّ تابَعَ مالِكٌ: وَكانَ قَلْبِي يَوْمَئِذٍ قاسِيًا، لا أَعْرِفُ زَوْجَةً وَلا وَلَدًا، لَكِنْ كَلِماتُهُ نَفَذَتْ إِلَى داخِلِي، فَأَثارَتْ فِي نَفْسِي رَحْمَةً غَرِيبَةً. فَانْتَزَعْتُ لِلرَّجُلِ حَقَّهُ مِنْ غَرِيمِهِ حَتّى رَضِيَ، وَزِدْتُهُ مِنْ مالِي لِأَزِيدَ فَرَحَ بَنَاتِهِ، وَقُلْتُ لَهُ: عِهْدًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تُخْبِرَهُنَّ أَنْ يَدْعُونَ لِمالِكِ بْنِ دِينَارٍ إِذَا فَرِحْنَ بِمَا حَمَلْتَ إِلَيْهِنَّ.

يَقُولُ مالِكٌ: بِتُّ لَيْلَتِي أَتَقَلَّبُ فِي فِرَاشِي أُفَكِّرُ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ إِكْرَامِ البَنَاتِ، وَكَيْفَ أَنَّ مَنْ فَرَّحَهُنَّ أَكْرَمَهُ اللهُ. وَشَعَرْتُ أَنَّ قَلْبِي لَمْ يَعْرِفْ مِثْلَ هذَا المَعْنَى مِنْ قَبْلُ. وَمُنْذُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ حَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِالزَّوَاجِ. لَكِنِّي عَلِمْتُ أَنَّ النَّاسَ لا يُزَوِّجُونَ مِثْلِي مِمَّنْ أَفْسَدَتْهُ الخَمْرُ وَالهَوَى. فَلَمْ أَجِدْ سَبِيلًا إِلَّا أَنْ أَشْتَرِيَ جارِيَةً تَكُونَ لِي زَوْجَةً.

فَابْتَعْتُ جارِيَةً نَفِيسَةً أَحْبَبْتُها وَأَحَبَّتْنِي، ثُمَّ رَزَقَنِي اللهُ مِنْها بِنْتًا صَغِيرَةً. هُناكَ تَغَيَّرَتْ حَياتِي؛ فَقَدْ تَعَلَّقَ قَلْبِي بِها تَعَلُّقًا عَجِيبًا، وَأَدْرَكْتُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مَعْنَى الإِنْسَانِيَّةِ الحَقَّةِ. كانَتْ لا تَمْلِكُ شَيْئًا، لَكِنَّها مَلَكَتْ قَلْبِي وَبَيْتِي، سُرُورُها سُرُورِي، وَابْتِسامَتُها حَياةٌ جَدِيدَةٌ لِي. وَرَأَيْتُ بِعَيْنَيَّ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا قَدْ تَهُونُ عَلَى المَرْءِ إِذَا امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِالرَّحْمَةِ.

يَقُولُ مالِكٌ: اجْتَهَدْتُ أَنْ أَتْرُكَ الخَمْرَ، فَما اسْتَطَعْتُ. كُنْتُ ضَعِيفًا أَمامَها، لَكِنَّها لَمْ تَعُدْ لَذَّةً كَما كانَتْ. فَقَدْ غَرَسَ حُبُّ ابْنَتِي فِي قَلْبِي كَراهِيَةً لَها، حَتّى صِرْتُ إِذا هَمَمْتُ أَنْ أَشْرَبَ، جاءَتِ الصَّغِيرَةُ إِلَيَّ تَتَعَلَّقُ بِالكَأْسِ وَتَسْكُبُهُ عَلَى ثِيابِي. فَأَراها تَضْحَكُ فَرِحَةً، فَأَضْحَكُ مَعَها وَلا أَغْضَبُ. وَهَكَذا صارَتْ هِيَ العاصِمَ الَّذِي يَرُدُّنِي عَنِ الشَّرابِ.

مَضَتِ الأَيّامُ وَأَنا بَيْنَ حالَيْنِ: أَتَناوَلُ الخَمْرَ أَحْيانًا وَأُعْرِضُ عَنْها كَثِيرًا، حَتّى غَلَبَتْ نَشْوَتِي بِابْنَتِي عَلَى نَشْوَتِي بِالكَأْسِ. كُنْتُ أَسْتَحِي أَنْ تَكْبُرَ فَتُدْرِكَ أَنَّ أَباها مُدْمِنٌ عَلَى الخَمْرِ، فَيَكُونَ عارًا عَلَيَّ وَوَبالًا عَلَيْها. فَكُنْتُ أَرْجِعُ إِلَى نَفْسِي وَأَقُولُ: أَخْشَى أَنْ تَتَرَحَّمَ البَناتُ عَلَى آبائِهِنَّ، وَتَلْعَنَنِي هِيَ لأَنِّي لَمْ أَكُنْ لَها أَبًا كَما يَنْبَغِي.

«ثُمَّ لَمّا تَمَّتْ لَها سَنَتانِ… ماتَتْ!»

قالَ مالِكٌ: كانَ مَوْتُ ابْنَتِي صاعِقَةً عَلَى قَلْبِي؛ أَظْلَمَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنَيَّ، وَانْهارَتْ نَفْسِي انْهِيارًا لَمْ أَعْرِفْ لَهُ مِثْلًا. لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مِنْ قُوَّةِ الإِيمَانِ ما يُواسِينِي وَيُصَبِّرُنِي، فَضاعَفْتُ جَهالَتِي أَحْزَانِي، حَتّى غَدَتْ مُصِيبَتِي مَصائِبَ كَثِيرَةً. وَأَدْرَكْتُ مُتَأَخِّرًا أَنَّ الإِيمَانَ وَحْدَهُ هُوَ عِلْمُ الحَياةِ الأَعْظَمُ؛ فَهُوَ الَّذِي يُبَصِّرُكَ إِذا عَمِيتَ، وَيَهْدِيكَ إِلَى السَّكِينَةِ إِذا ضَلَلْتَ، وَيَجْعَلُ نَفْسَكَ صَدِيقَةً لَكَ لا عَدُوَّةً عَلَيْكَ.

أَمّا أَنا فَقَدْ رَجَعْتُ بَعْدَ مَوْتِها إِلَى أَسْوَأَ مِمَّا كُنْتُ؛ انْغَمَرْتُ فِي حُزْنِي حَتّى صارَ فَرَحًا لِلشَّيْطانِ. ظَلِلْتُ أَتَخَبَّطُ حَتّى جاءَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ، وَكانَتْ لَيْلَةَ جُمُعَةٍ مُضِيئَةً كَبِدايَةِ فَجْرِ رَمَضانَ. هُنالِكَ سَوَّلَ لِيَ الشَّيْطانُ أَنْ أَسْكَرَ سُكْرًا لَمْ أَسْكَرْهُ مِنْ قَبْلُ، فَشَرِبْتُ حَتّى غِبْتُ عَنِ الدُّنْيا، وَأُلْقِيتُ فِي نَوْمٍ عَجِيبٍ.

(3)الرُّؤْيَا الْفَاصِلَةُ

قالَ مالِكٌ: رَأَيْتُ فِي مَنامِي كَأَنَّ القِيامَةَ قَدْ قامَتْ، وَالنّاسُ يُساقُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى المَحْشَرِ. وَإِذا بِزَفِيرٍ مُرْعِبٍ خَلْفِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذا تِنّينٌ عَظِيمٌ، أَسْوَدُ أَزْرَقُ، طَوِيلٌ كَالنَّخْلَةِ، تَتَطايرُ مِنْ عَيْنَيْهِ شَراراتُ دَمٍ، وَتُلْهِبُ أَنْفاسُهُ نارًا تَكادُ تُحْرِقُ الأَرْضَ. انْدَفَعَ نَحْوِي يُرِيدُ ابْتِلاعِي، فَهَرَبْتُ مَذْعُورًا.

وَفِي طَرِيقِي رَأَيْتُ شَيْخًا هَرِمًا ضَعِيفًا، فَاسْتَجَرْتُ بِهِ وَقُلْتُ: أَنْقِذْنِي! فَنَظَرَ إِلَيَّ بِحُزْنٍ وَقالَ: أَنا أَضْعَفُ مِنْ أَنْ أُغِيثَكَ مِنْ هذَا الجَبّارِ، وَلَكِنْ أَسْرِعْ لَعَلَّ اللهَ يَجْعَلُ لَكَ فَرَجًا. فَانْطَلَقْتُ هارِبًا، فَإِذا بِي أَقْتَرِبُ مِنَ النّارِ العُظْمَى. فَارْتَعَدَ قَلْبِي، وَرَجَعْتُ مُسْرِعًا، وَالتِّنّينُ يُلاحِقُنِي. فَلَقِيتُ الشَّيْخَ مَرَّةً أُخْرَى فَاسْتَجَرْتُ بِهِ، فَبَكَى وَقالَ: اهْرُبْ إِلَى ذَلِكَ الجَبَلِ المُشْرِقِ، فَلَعَلَّ اللهَ يُنَجِّيكَ.

قالَ مالِكٌ: رَفَعْتُ بَصَرِي فَرَأَيْتُ جَبَلًا يَلْمَعُ كَأَنَّهُ جَوْهَرَةٌ عَظِيمَةٌ، تَعْلُوهُ نَوافِذُ مُغَطّاةٌ بِسَتائِرَ بَرّاقَةٍ. أَسْرَعْتُ أَرْكُضُ إِلَيْهِ وَالتِّنّينُ خَلْفِي يَلْهَثُ نارًا، حَتّى شَعَرْتُ بِحَرِّ أَنْفاسِهِ يَكادُ يَلْتَهِمُنِي. فَلَمّا قارَبْتُ الجَبَلَ، انْفَتَحَتِ النَّوافِذُ، وَارْتَفَعَتِ السُّتُورُ، وَأَطَلَّتْ وُجُوهُ أَطْفالٍ كَالأَقْمارِ. فَإِذا بِهِمْ يَصِيحُونَ جَمِيعًا: يا فاطِمَةُ! يا فاطِمَةُ!

وَإِذا هِيَ ابْنَتِي قَدْ أَقْبَلَتْ مُسْرِعَةً، كَالسَّهْمِ إِذا انْطَلَقَ، فَمَدَّتْ يَدَها فَأَمْسَكْتُنِي بِشِمالِها، وَبِيَمِينِها دَفَعَتِ التِّنّينَ فَانْهَزَمَ مُوَلِّيًا. أَجْلَسَتْنِي فِي حِجْرِها كَما كانَتْ تَفْعَلُ فِي الدُّنْيا، وَمَسَحَتْ بِيَدِها الصَّغِيرَةِ عَلَى لِحْيَتِي وَقالَتْ: يا أَبَتِ، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ؟

بَكَيْتُ وَقُلْتُ لَها: يا بُنَيَّتِي، ما هذَا التِّنّينُ الَّذِي أَرادَ هَلاكِي؟ فَقالَتْ: ذاكَ عَمَلُكَ السَّيِّئُ، قَوَّيْتَهُ حَتّى صارَ عَظِيمًا مُخِيفًا. قُلْتُ: فَمَنِ الشَّيْخُ الضَّعِيفُ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُغِيثَنِي؟ قالَتْ: ذاكَ عَمَلُكَ الصَّالِحُ، أَضْعَفْتَهُ حَتّى صارَ عاجِزًا. وَلَوْلا رَحْمَةُ اللهِ، ثُمَّ أَنَّكَ يَوْمًا فَرَّحْتَ بَناتِ يَتِيماتٍ، لَما وَجَدْتَنِي هُنا أَمُدُّ يَدِي لَكَ.

(4)اليَقَظَةُ وَالتَّوْبَةُ

قالَ مالِكٌ: انْتَبَهْتُ مِنْ نَوْمِي فَزِعًا، قَلْبِي يَخْفِقُ كَطَرِيدَةٍ تُطارِدُها ذُنُوبُها؛ أَيْنَما هَرَبَتْ مِنْها لَحِقَتْ بِي. عِنْدَها قُلْتُ فِي نَفْسِي: ما زالَ فِي العُمْرِ بَقِيَّةٌ، وَيَوْمٌ واحِدٌ يَبْقَى لِلْمُؤْمِنِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَياةً جَدِيدَةً، فَلا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَهانَ بِهِ. عَزَمْتُ عَلَى التَّوْبَةِ الصّادِقَةِ، لِأُقَوِّيَ عَمَلِي الصّالِحَ، وَأَجْعَلَهُ حِصْنًا أَلُوذُ بِهِ يَوْمَ الحاجَةِ، فَلا أَسْمَعَ بَعْدَ اليَوْمِ مِنْ نَفْسِي أَوْ مِنْ عَمَلِي: أَنا ضَعِيفٌ كَما تَرى!

سَأَلْتُ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، فَقِيلَ لِي: هُوَ إِمامُ الزّاهِدِينَ فِي عَصْرِهِ، جَمَعَ بَيْنَ العِلْمِ وَالوَرَعِ وَالعِبادَةِ، وَكانَ كَلامُهُ يَفْتَحُ القُلُوبَ كَالسِّحْرِ. ذَهَبْتُ إِلَى المَسْجِدِ، فَجَلَسْتُ فِي حَلْقَتِهِ. وَما لَبِثَ أَنْ قَرَأَ قَوْلَ اللهِ تَعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ}، فَإِذا قَلْبِي يَرْتَجِفُ وَكَأَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ عَلَيَّ وَحْدِي. وَأَخَذَ يُفَسِّرُها بِلِسانٍ صادِقٍ وَرُوحٍ خاشِعَةٍ، فَما زادَنِي فِي اليَقِينِ أَحَدٌ كَما زادَنِي الحَسَنُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ. هُنالِكَ بَدَأَتْ تَوْبَتِي، وَكانَتِ البِدايَةَ لِحَياةٍ جَدِيدَةٍ.

الخاتِمَةُ

أَيُّها القارِئُ، إِنَّ قِصَّةَ مالِكِ بْنِ دِينَارٍ لَيْسَتْ حِكايَةَ رَجُلٍ واحِدٍ، بَلْ هِيَ مِرْآةٌ لِكُلِّ نَفْسٍ غافِلَةٍ. فَقَدْ كانَ قَوِيًّا فِي جَسَدِهِ، شَدِيدًا فِي سُلْطانِهِ، لَكِنَّ قَلْبَهُ كانَ ضَعِيفًا أَمامَ شَهْوَةٍ وَمَعْصِيَةٍ. فَلَمّا فَتَحَ اللهُ لَهُ بابَ الرَّحْمَةِ بِابْنَةٍ صَغِيرَةٍ، عَلَّمَتْهُ بِضَحِكاتِها البَرِيئَةِ ما لَمْ تُعَلِّمْهُ الكُتُبُ وَالمَجالِسُ. وَحِينَ فَقَدَها، أَيْقَنَ أَنَّ الدُّنْيا كُلَّها لا تُساوِي شَيْئًا إِذا خَلا القَلْبُ مِنَ الإِيمَانِ.

لَقَدْ رَأى فِي مَنامِهِ أَعْمالَهُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ: السَّيِّئَةُ وَحْشًا مُهْلِكًا يُطارِدُهُ، وَالصّالِحَةُ شَيْخًا ضَعِيفًا لا يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ. فَفَهِمَ أَنَّ المَرْءَ هُوَ مَنْ يَصْنَعُ غَدَهُ بِيَدَيْهِ، وَأَنَّ ما يُغَذِّيهِ فِي دُنْياهُ سَيَجِدُهُ أَمامَهُ فِي أُخْراهُ. وَلَكِنْ رَحْمَةُ اللهِ أَوْسَعُ مِنْ ذَنْبِهِ، إِذْ كانَتْ تِلْكَ البِنْتُ الصَّغِيرَةُ سَبَبَ نَجاتِهِ، تُذَكِّرُهُ بِقَوْلِ اللهِ تَعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ}.

وَهكَذا أَدْرَكَ مالِكٌ أَنَّ العُمْرَ مَهْما ضاعَ، فَإِنَّ لَحْظَةً صادِقَةً مِنَ التَّوْبَةِ تَكْفِي لِتَفْتَحَ طَرِيقًا جَدِيدًا، وَأَنَّ عَمَلًا صالِحًا يُضْعِفُهُ المَرْءُ فِي الدُّنْيا قَدْ يَكُونُ عَزاءَهُ فِي الآخِرَةِ، وَأَنَّ رَحْمَةَ اللهِ دائِمًا أَقْرَبُ مِمّا يَظُنُّ الغافِلُونَ.