المولد… من مكة إلى غزة: قانون النور في وجه العدم

المولد… من مكة إلى غزة: قانون النور في وجه العدم

   الميلاد في العادة، خروج من رحم ضيّق إلى فضاء أوسع، أمّا ميلاد محمد ﷺ فهو خروج من رحم الظلام البشري إلى فسحة النور الكوني. لم يكن مولده حدثا عابرا في قريش، بل كان شرارة في نسيج الوجود، مثل نجم ينهض من العدم ليقول للكون: “الإنسان لم يُخلق ليضيع في العتمة”.

تأمّل: يولد النبي ﷺ في ليل بلا ضوء، في صحراء بلا ظل، في حضارة بلا روح، وكأنّ المولد فجرٌ كونيّ انبثق من نقطة منسية ليقرر في وعي الإنسان: من رحم العدم تولد الإمكانات الكبرى، ومن اليتم يولد السند، ومن القهر يولد المعنى.

    المولد ليس تاريخا بل رمز، رمز البذرة التي تشق صمت التراب لتخرج شجرة يمتد ظلها إلى العالم، رمز الفجر الذي يتردّد في أعماق الليل حتى يُعلن نفسه نورا، رمز الحقيقة التي تولد ضعيفة لكنها تسند الأرض كلّها.

   الفرق الجوهري بين ميلاد النبي ﷺ وميلاد الأساطير؛ أنّ الأسطورة ولدت لتُرضي الخيال، بينما ولدت الرسالة لتوقظ الوعي، في الثقافات القديمة، كان ميلاد الأبطال يروى في حكايات عجائبية: طفل تنبأت به الكهنة، أو رضيع ربّته الآلهة، أو مولود يملك قوى خارقة تتجاوز قدرة الإنسان. غير أنّها تبقى رموزا معلّقة في فضاء الوهم، يتلذّذ بها العقل الجمعي ولا تغيّر واقعه. أمّا ميلاد ابن عبد الله ﷺ فعلى العكس تماما: يتيما بلا سند، فقيرا بلا قوة، غريبا بلا عصا سحرية، إلاّ أنّه حمل معنى أكبر من كل عجائب الأساطير. ولد لا ليُدهش المخيلة، بل ليوقظ الإنسان من سباته، وليحوّل الضعف إلى طاقة، واليُتم إلى سند، والعجز البشري إلى إمكان حضاري. فميلاده لم يكن تزيينا أسطوريا للذاكرة، بل حدثا رساليا يثبت أنّ التاريخ يمكن أن يتغيّر بإنسان يملك المعنى أكثر مما يملك القوة.

    في زمننا، حيث تُستباح فلسطين، حيث تختبر إنسانية العالم عند أقدام أطفال يدفنون تحت الركام، يعود المولد كفلسفة وجودية: أنّ النور لا يموت ولو تكاثر الليل، وأنّ الميلاد قد يتأخر لكنه لا يغيب. محمد ﷺ وُلد في عصر لم يكن يعرف إلاّ الأصنام، واليوم يولد معناه في عالم يعبد أصناما جديدة: القوة، المال، الإعلام، السلاح. وكما قاوم نورُه ظلام الجاهلية، فإنّ روحه ما زالت تقاوم إلى اليوم، في صمود طفل يمسك بحجر، في عزم أمّ تحتضن جثمان وليدها، في قلوب أناس لا يملّون من انتظار فجر قادم. حتى لو كانوا جوعى أو داخل الأنفاق.

     المولد، إذا قرأناه بعيون القلب، ليس فقط لحظة عربية في وادٍ مكّي، بل هو قانون الوجود: أنّ النور يولد دوما من قلب الظلام، وأنّ الإنسان لا يُقاس بمكانه ولا بزمانه، بل بالمعنى الذي يزرعه في مسار التاريخ.

حين نحتفل بالمولد لا نعيد ذكرى ماضية، بل نعلن تحدّيا: أن نسمح لأنفسنا بالولادة من جديد، أن نخرج من أرحام مخاوفنا، من قبور عاداتنا، من سجون أنانيّتنا. أن نولد ونحن نحمل للإنسانية رحمة لا قهرا، معنى لا فراغا، وعدلا لا انتقاما حبا لا جفاء.

   المولد اليوم ليس قصيدة مدح تلقى، بل سؤال يطرح: هل نملك شجاعة أن نولد نحن أيضا؟ أن نكون شهودا للنور وسط هذا الطوفان من الظلام؟ أن نثبت أنّ ميلاد محمد ﷺ لم يكن لحظة عابرة، بل قانونا كونيا يتكرّر في كل نفس تجرؤ على أن تصير معنى حيّا، في كل أمة ترفض أن تموت ولو تكاثرت ضدها جيوش العدم؟

   فليكن المولد، هذه المرّة، مرآة نقرأ فيها غزة: لا كأرض تنزف فقط، بل كبوصلة تكشف أين يقف العالم من إنسانيته. هناك، لا يولد النور في صورة شعاع يبدّد الليل، بل في هيئة كرامة تتشبث بالحياة، وفي إصرار شعب يحوّل الجرح إلى معنى. في غزة نكتشف أنّ المولد ليس احتفالا بزمن مضى، بل امتحانا للحاضر وتمحيصا لأهله: هل يبقى الإنسان إنسانا حين تسحق الأجساد ويُختبر الضمير؟ إنّ ميلاد محمد ﷺ لم يكن وعدا بالراحة، بل وعدا بالمعنى. والمعنى اليوم يصرخ من بين الأنقاض: أنّ الكرامة لا تُدفن، وأنّ الرسالة لم تزل تتجدد كلما حاول الليل أن يبتلع آخر شمعة.