الذكاء الاصطناعي وملكة البحث: بين الإسناد والتقويض

لم يشهد تاريخ البحث العلمي تطورا تقنيا يوازي في عمقه وتأثيره ما أحدثه الذكاء الاصطناعي (AI) من زلزلة للأنماط التقليدية في إنتاج المعرفة، فقد أفرز هذا التطور معادلة جديدة تضع ملكة البحث والتأليف موضع تساؤل: أهي بصدد الازدهار بفضل أدوات الإسناد التقني، أم أنها تواجه خطر التآكل بفعل الاستسهال والاستنساخ؟ وبين من يراه أداة خارقة لتيسير المسار البحثي، ومن يعدّه تهديدا لأصالة الفكر ونزاهة الإبداع، تنبثق الحاجة إلى مراجعة منهجية تحدد موقع الذكاء الاصطناعي في البيئة الأكاديمية، وحدود شرعيته العلمية والأخلاقية.

  • الذكاء الاصطناعي بوصفه تهديدًا لملكة البحث والتأليف

إن أخطر ما يتهدد البحث العلمي ليس وفرة المعلومات، بل ضمور ملكة الباحث أمام إغراء المحتوى الجاه، فمع تنامي أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبح في المتناول إنتاج ورقة بحثية، أو عرض أكاديمي، أو حتى أجزاء من كتاب، في دقائق معدودة، دون المرور بمخاض التفكير وصياغة الإشكالية وتحليل المعطيات وسعة الاطلاع على المصادر والمراجع. وبهذا يفقد الباحث صلته بأدواته العقلية النقدية، وتُفرَّغ العملية البحثية من جوهرها، فلا يبقى إلا نص يحمل بصمة الخوارزمية بدل بصمة العقل البشري. إن هذا التحول لا يشوه المعايير الأكاديمية فحسب، بل يطرح تساؤلات حقيقية حول شرعية الإنتاج العلمي في زمن تُهدَّد فيه ملكة التأليف بالتقويض.

  • حدود التوظيف الأخلاقي والمنهجي للذكاء الاصطناعي

غير أن الإنصاف يقتضي التمييز بين التهديد وسوء التوظيف؛ فالذكاء الاصطناعي في ذاته ليس خصما للملكة البحثية، بل قد يكون أداة لإسنادها إذا وُضع في إطاره الصحيح. فحين يُستعمل في توليد أولي للأفكار، أو تعزيزها، أو في تصنيف الأدبيات وتلخيصها، أو في تقديم دعم لغوي وتنسيقي، أو في تحليل المعطيات الكمية والبيانية، فإنه يختصر الجهد الإجرائي ويتيح للباحث فسحة أوسع لممارسة ملكاته النقدية والإبداعية. لكن هذا لا يتحقق إلا إذا ظل الذكاء الاصطناعي في موقع “الخادم التقني” لا “المفكر البديل”، بحيث يُسند ملكة البحث ولا يحل محلها.

  •  غياب التأطير المؤسسي ووظيفة الجامعة

المعضلة الكبرى لا تكمن في الأداة بل في غياب تأطير مؤسسي يحفظ التوازن، فما تزال الجامعات العربية خاصة تفتقر إلى سياسات واضحة ترشد الطلبة إلى الاستخدام الرشيد للذكاء الاصطناعي، وتربيهم على التمييز بين الإسناد المشروع والاعتماد المُفسد للملكة البحثية. كما أن أدوات كشف المحتوى (المولد) ما تزال بدائية أو غير دقيقة، مما يفتح الباب أمام الغش الأكاديمي المقنّع، ومن ثَمّ، فإن الحاجة ملحة إلى رؤى تربوية وسياسات جامعية تُعيد الاعتبار إلى دور العقل البشري، وتضع ضوابط تحمي ملكة البحث من الذبول تحت ضغط التقنيات.

  • خاتمة

إن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وملكة البحث ليست علاقة خصومة مطلقة ولا انسجام تام، بل هي علاقة مزدوجة: قد يكون فيها الذكاء الاصطناعي سندا إذا ضُبط بمنهج، أو تقويضا إذا تُرك بلا ضوابط. فالمطلوب إذن ليس التهويل ولا التهوين، بل بناء ثقافة علمية جديدة تجعل من التقنية معينا للباحث لا بديلا عنه، وتربط شرعية المعرفة بأصالتها لا بسرعة إنتاجها. ولن يتحقق هذا إلا عبر شراكة فاعلة بين المؤسسات الجامعية والباحثين وصناع القرار، تُؤطّر، وتدرّب، وتراقب، لتبقى ملكة البحث العلمي في صدارة الفعل الحضاري.