توجيهات منهجية في إنجاز البحوث العلمية

توجيهات منهجية في إنجاز البحوث العلمية

توجيهات منهجية في إنجاز البحوث العلمية

د. الحسان شهيد

جمع وتقديم: عز الدين حدو

إن المطلع والمتتبع لحركة البحث العلمي الأكاديمي يتجلى له بالواضح القصور البيّن في الكفايات المنهجية عند طلبة التعليم الجامعي، من خلال بحوث تخرجهم في سلكي الإجاز والماستر أو حتى سلك الدكتوراه، أو من خلال عجز طلبة هذا السلك الأخير في كتابة مقالات علمية محكمة مطالبين بها خلال المرحلة الزمنية في هذا السلك، وما يؤكد هذا الإحصائيات الحديثة التي أعلنت عنها وزارة التعليم العالي، والتي مفادها أن 5٪ فقط من المسجلين بسلك الدكتوراه هم من يتوجون مسيرتهم البحثية بالحصول على الشهادة، ولا شك أن هذا مرجعه إلى تلك العوائق المنهجية عندهم وعدم تمكنهم من تقنيات البحث وأدواته.

هذا الضعف والقصور عند الطلبة الباحثين وغيرهم جعل الكثير من الأساتذة الغيورين على البحث الأكاديمي والحريصين على تنمية قدرات طلبتهم في هذا المجال يبذلون جهدا مشكورا في التوجيه والتكوين إما عبر أنشطة علمية أو من خلال التدوين والتأطير الفردي، وإسهاما في إبراز هذه الجهود نقدم لكم في هذه الورقات مجموعة من التوجيهات المنهجية أخذناها من صفحة فضيلة الأستاذ الدكتور الحسان شهيد جزاه الله خيرا، لعلها تفيد الباحثين الذين يسعون إلى تجويد بحوث ومقالاتهم. وقد عملنا على تقسيمها إلى قسمين؛

توجيهات منهجية تقنية:

 وهي توجيهات إذا ما أخذنا بها فإننا نكون قد وفّرنا الكثير من الوقت الذي نهدره بشدة أثناء عملية التحرير، كما تعطي البحث جمالية شكلية منهجية تفتح شهية القراءة لمن اطلع عليه، وفي هذا يتجلى لنا تجربة أستاذنا الحسان شهيد المتعمقة  في البحث الأكاديمي والعلمي حفظه الله، وهذه التوجيهات كالتالي:

  • إذا آنست من نفسك استيعابا لتصور البحث، وصعب عليك تحرير فصل ما، فربحا للوقت وادخارا للجهد، يحسن بك تجاوزه إلى ما تستطيعه، ويسهل تحريره، فقد يفتح لك مغاليق الأول..
  • كثيرا ما يتردد لدى الطلبة سؤال المصادر والمراجع، وللاهتداء إليها هذه ثلاثة مسالك موصلة:

الأول: أن تستفسر خبيرا بالموضوع الذي تشتغل عليه، فيدلك على أدقها وأوعبها..

الثاني: أن تعود إلى بحث (كتاب أومقال) أصيل سابق أو قريب من الموضوع، وتراجع كشاف مصادره..

الثالث: أن تتعقبه في فهارس ودلائل المكتبات الكبرى، أو تتصفح مواقع البحث الالكتروني، ثم تنظر في مباحث ومصادر الكتب التي تراها أقرب إلى موضوع بحثك..

  • لا تتأخر في ولوج صلب الموضوع، ولا تستفرغ وسعك في مُلحه، وتهدر وقتك في تتمّاته، كأن يكون عنوان بحثك مثلا “منهج البحث العقدي عند ابن حزم”، فتستغرق بابا بفصوله الثلاثة، تعريفا بشخصية البحث في أولها، -على شهرتها-، وعرضا لبيئتها الاجتماعية وظروفها السياسية في ثانيها، وبيانا لمفردات عنوانه في ثالثها، فجملة ذلك يمكن استيفاؤه في مبحث تمهيدي بنسبة لا تربو عن 10%، واحذر أن تعدل تلك النسبة فقط نصيب جوهر بحثك..

  • وبينه وبين سابقه ميثاق دقيق، اجعل عنوان بحثك معبّرا عن مضامين فصول بحثك كلها، لا مطابقا لعنوان فصل من فصوله، كأن يستوي عنوان بحثك مثلا “البعد الصوفي عند العلامة المختار السوسي”، والفصل الأخير من الباب الأخير عنوَنتَه: ب”البعد الصوفي عند العلامة السوسي” فهذا يعني أن كل ما قبله من فصول صلته غير سوية بلب الموضوع.

وهنا قد أوتيت من ثغرتين: إما أنك أخفقت في اختيار عنوان بحثك، أو أخذتك عزة الإطناب بمزية حجم البحث. فالأولى ثُلمة منهجية والثانية ثُلمة معرفية.

  • لا ينفعك نقل نص من أي مصدر أو مرجع دون حصره بين مزدوجتين من بدايته حتى نهايته، ولا يشفع لك أن سفّلته تهميشا وترجيعا ب(انظر), لأن إحالة “انظر” لها صورة أخرى غير ما تريد، فهي تفيد أن ما أوردته يتناسب مع سياق أو مضمون أو مفهوم ما همّشت به، ولأجل التبيّن أو البيان أو التبيين تدعو القارئ إلى النظر فيما أحلته عليه.

  • لا توجد فروق كبيرة بين طرق التهميش والترجيع للنصوص والفقرات، إنما تختلف بحسب الوسط الأكاديمي للباحث، إذ كل يعمل على شاكلته، وأفضلها “الأنجلوساكسونية” ففي حالة كتاب مرجعي، توثق هكذا:

(1)  شهيد، الحسان، الخطاب النقدي الأصولي، من تطبيقات الشاطبي إلى التجديد المعاصر، هرندن، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وم أ، ط1، س1433/2012. ص111

وفي حالة دراسة مرجعية بمجلة محكمة، هكذا:

(2)  شهيد، الحسان، علوم الوحي والدراسات الإنسانية، آفاق الوصل وتحدياته، مجلة نماء، مركز نماء للدراسات والبحوث، ع1،.س1، س2016/1437، ص135

وعند الإحالة على نفس المرجع تحتفظ بالكاتب والكتاب، مع إضافة مصدر سابق، ص33

وعند الثالثة على التوالي تقتصر على المصدر أو المرجع نفسه، ص11

واختيارك المنهجي يلزمك حفظه من بداية البحث حتى نهايته..

من العيوب الشائعة في البحوث و الكتب المنشورة، خلل ترتيب المعلومات، وذلك على مستويين:

الأول: ترتيب التعريفات، فلا يخلو بحث على الأرجح من تعريف مفردات أو مصطلحات، فحين تسرد التعريفات، احرص على ترتيبها زمنيا بحسب واضعيها، فمثلا حين أعرف التصوف، لا أبدأ بتعريف ابن عجيبة قبل تعريف الكلاباذي، ثم أتبعه بتعريف القشيري وأنتهي بتعريف الجنيد، وكما تضبط ذلك زمنيا تنتظمه اختصاصيا، وستكون ثلمة في البحث لو استعجلت في إيراد تعاريف مستشرقين ومعاصرين درسوا التصوف من خارج، لأنه خبط وخلط، وهذا الرصد التاريخي يفيدك في فقه تطور المفهوم وفهم تحولاته..وذلك علم في حد ذاته..

الثاني: ترتيب الأفكار، وهذا يتطلب من الباحث حسا في ترتيب أفكار موضوعه، أي لما تجمع المادة العلمية وتحصّل عددا من النصوص تحمل أفكارا متقاربة، فالأولى أن تذكر قائلها ابتداء، لا أن تؤخره، حفظا لمقامه وأمانة لإبداعه. كأن تتحدث عن ظهور فكرة الاجتماع البشري فتورد نصا لإميل دوركايم أو لأوجست كونت أو للقنوجي، وتغفل أو تهمش ابن خلدون، و غيره من السباقين إلى الفكرة، فهذا خلل منهجي في إحكام صنعة البحث، و ظلم أخلاقي أيضا..فمعرفة تاريخ الأفكار مهم للباحث في فقه مسارها وتطورها..

إن زينة البحث في لغته، وحِليته في أسلوبه، وجودته في مفاهيمه، والباحث المفتقر إلى تلك الأنماط الخِطابية سيعتري كتابته خلل، يعود على مشروعه العلمي بالعيب والنقصان.

  • فمن حيث اللغة، سيجد الباحث مشقة في التعبير عن أفكاره، حتى لو تمكن من جمع مادته العلمية، بل سيحول فقره اللغوي دون إبداع أفكار جديدة أو مطورة على أقل تقدير، لأن اللغة كما هي منطق تحرير وتعبير فهي منطق تفكير وتدبير، وجماع هذا القول في معادلة معرفية سببية: كلما كانت قراءتك كثيفة كانت كتابتك رصينة، وكلما وهنت قراءتك وقلت، وَنِيت كتابتك وضعفت، حتى يولد بحثك ولادة عسيرة، وما المخاض العسير الذي تعيشه في بداية التحرير إلا مؤشر على ذلك، فكتابتك زكاة قراءتك، ومن شرطها مرور حول القراءة والاطلاع.

  • وأما من حيث الأسلوب والمفردات، فإن خطاب البحث يتباين من حقل معرفي إلى آخر، فإن رسا اختيارك على البحث في علم العقيدة، فاعلم أن له خطابا مائزَ الأسلوب بتعابير مدروسة ومفردات مخصوصة، وبينه وبين علم التاريخ مثلا برزخ لغوي وأسلوبي لا يبغيان، والبون نفسه إزاء الأدب أو الفلسفة أو أصول الفقه وما غاير…فإذا عزمت على الكتابة في الفقه فلا تستعمل خطاب النقد الأدبي ولا خطاب العرفان الصوفي، وإلا اختر ما تتقن وتحسن مجالا للبحث..

لكل بحث باب تدخله منها، وباب تخرج منها، فمدخله مقدمته، ومخرجه خاتمته..

  • أما الخاتمة، فهي استراحة مجاهد بعد تعب وسهر ليالي، تُحرِّرها وأنت تنتقي الرُطب الجَنيّ، لتغري بها فضول المطّلع، و تثير بها شهية الوافد المتصفح لعملك، فلا تقصِّر فيها عن قيمة جهدك المبذول في مطالب البحث، ويستحسن أن تجعلها مذكرة بأهم الأفكار المعروضة، والقضايا المسرودة و ما مررت عليه بيانا وتفصيلا واستدلالا، تنبيها للقارئ حتى ترتسم لديه في إجمالها، وتُبسَط إليه حين عودته بعد أمّة لتذكارها، فالخاتمة بمثابة مرآة خلفية لسيارتك، تنظر فيها إلى ما مررت عليه عند المسير، وما سطرته قبلها من تقرير،..فاجعلها كاشفة لنتائج وإلماعات بحثك الواردة، واعطفها بتوصيات رؤى وأفكار شاردة، وذيِّلها بآفاق بحوث تراها واعدة..

توجيهات منهجية في المضمون:

وهي توجيهات منهجية تتعلق بمضمون البحث بدءا من طريقة كتابة المقدمة وتقديم الفقرات وترتيب الأفكار والتعامل مع المصادر والمراجع والتخريج والهوامش وغيرها، وهي كالتالي:

  • ولما كانت المقدمة بابا فتحها الكاتب لأجل بحثه، فهي أيضا باب يقرعها القارئ، فإما لقي منك ترحابا فأغريته بإتمام القراءة، وإلا وجد منك نفورا، فصرفته عن مجالستك السٱمة، فاحرص على براعة استهلالك فيها. وقوام ذلك إرجاء كتابتها إلى فراغك من البحث، بعد حيازتك لتصور أوسع عنه، لأنك مهما أجهدت نفسك في تدبيجها فلن تقع منك محل الرضى، حتى تستوفي البحث أطرافه، وتنهي فصوله وكشافه، فينتهي ما كتبته هاديا في تحريرها، وكي لا تخلف وعودك أفكارك المودعة في المتن..باختصار: إن المقدمة حاكمةٌ، كزجاج سيارتك الأمامي، تنظر فيها مدى طريقك المرسوم..فضمِّنها تمهيدا عاما للموضوع، ودواعيه ومقاصده، ومطالبه، ومفاتيحه..

  • من الأخطاء المنهجية المعيبة، والشائعة لدى الطلاب والباحثين، بل حتى بعض الكتاب، هو استهلالهم الصفحة أو الفقرة بالمزدوجتين، أي أنه يبدؤها بنص مرجعي منقول عن كاتب آخر دون ضرورة، فأقل ما في ذلك استنابة كاتب آخر في البدء بدلا عنك، وكأنك عجزت عن افتتاح الصفحة أو الفقرة بنفسك، بكلام تمهد به للنص، والأولى أن تقدم لأي نص منقول بكلام صادر منك، إشعارا بأنك أنت من يوجه النص، وليس النص هو من يوجّهك، وقد يبلغ هذا الصنيع من الكثرة ما يُشعر القارئَ بأنك جمّاع نصوص، ترصّ بعضها إلى بعض، تصفيفا وتلفيقا، فجمع النصوص ضروري ما اقتضى السياق ذلك، إنما اعلم أنها مطلوبة لغيرها لا لذاتها، أي تستأنس بها في الربط والتنسيق لبناء بحثك، وتؤثث بها بيته الداخلي.

  • ومن العيوب المنهجية أيضا، تطويل التعاليق وكثرة الاستطرادات الهامشية، كسرد ترجمة علَم، أو مناقشة مسألة، أو زيادات لا فائدة منها، حتى لتجد مساحة المتن تساوي مساحة الهامش، وأحيانا تربو عليها، أما وأن يُتلقى ذلك في التحقيقات بالقبول في حدود، فإنها في الدراسات تعتبر خللا وجب تفاديه، مع الاحتفاظ بما هو مفتقر إليه كتوثيق نص مفيد، أو ذكر معلومة لها صلة بالمحال عليه، واحرص على تجنب عرض معلومة يبدو متن البحث أولى بها من الهامش، لأن ذلك ينم عن ضعف استثمارك المناسب للنصوص التي بين يديك.

  • لا يليق بالباحث الغفلة عن تخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، خصوصا الباحث في علوم الوحي، لأنك إذا اجتهدت في نسبة الأقوال إلى أصحابها وتوثيقها، فالنصوص القرآنية والحديثية من وجه أولى، لما يحتف بها من قدسية في النسبة وصدقية في الإيعاز، أما الآيات فتذكر سورتها ورقمها (سورة الحِجْر/..) ويستحسن جنبها، وأما الحديث فكهذا: (رواه البخاري..، كتاب..، باب…رقمه..) وهذه الشاكلة إذا شقت على كبار المؤلفين والمحققين المتقدمين، فهي لدى المعاصرين أيسر وأسهل، ولا تكلفك غير دقائق معدودة باستثمار الوسائل الالكترونية المتاحة. لذلك فلا عذر للباحث في العلوم الإنسانية أيضا، أن يستشهد بنصوص قرآنية مشوبة بأخطاء، أو حديثية موضوعة أو ضعيفة الإسناد.

  • لا تغرنَّك كثرة الهوامش والإسهاب فيها بسطا حتى تحول إلى حواشي، فالحواشي شروح وبيانات ضافية، لمن فاته بيانك في المتن، واجعل الهامش توثيقا أو ترجيعا أو توضيحا مقتضبا، ولا تفوت عليك فرصة الاحتفاء بفقرة أو نص ثمين في البيان والتفصيل، فترسله إلى الهامش في سوء استثمار، واستدلالك في المتن أحوج إليه، ولا تنقل إلا ما تراه مناسبا وضروريا، لأن ما زاد عن المطلوب فهو غير مرغوب..

  • لا تحسبن إثبات لائحة طويلة لمصادر ومراجع بحثك استعراضا لقوة عارضتك وسعة اطلاعك، هذا قد يحصل، إنما لا تنس أنها مرآة تعكس الذخيرة المعرفية التي تستند إليها في بناء عمرانك البحثي، ومرجعيتك العلمية التي تنهل منها، فإن كان بحثك في أصول الفقه مثلا أو التصوف أو الحديث، فما معنى وجود عنوان رواية ضمن كشاف المراجع؟ أو وجود عنوان شريط سينمائي، أوقصيدة شعرية في جريدة منسية، أو مرجع موسيقى أو للفنون التشكيلية ضمنها؟ وإن كان من مسوغ ضروري لذلك يطلب بيانه وتبريره..

  • استفرغ وسعك في تصفح كتب المتقدمين، واحمل نفسك على الإفادة منها، لأنها خزان مصادر المتأخرين، وكلما اعتمدت عليها في بحثك كان أحسن وأجود، لأنك نهلت أصالة الأفكار ورجاحة الأحكام، وهذا لا يقصر على العلوم الشرعية النقلية فحسب، بل حتى العقلية والإنسانية في أكثرها، لأن “رسالة” الشافعي و”فروق” القرافي و”موافقات” الشاطبي تغنيك عن مجمل كتب المعاصرين، و”مقدمة” ابن خلدون و”مناهج” ابن رشد و”معيار” العزالي تثريك عن كتب حديثة ناقلة ومرددة وصاحبة رجع الصدى، فإن قلت: إنها صعبة الفهم والاستيعاب، قلت: ما الباحث إلا مجتهدٌ في البحث عن المعنى. وأن تتجول بمسألة بين بطون تٱليف المتقدمين خير من التطواف على جنبات كتب المتأخرين..

مراعاة أسيقة النصوص: بعد عمليتي الاستقراء والجمع ستتحصل لديك نصوص متباينة من حيث الحجم، مختلفة من حيث الدلالة، وحينها أنت مطالب باستثمار أقواها دلالة على ما تريد البناء به، وأدقها تعبيرا عما تروم الاستدلال عليه، كما يجدر بك إهمال أضعفها وترك أطنبها، سبرا وتقسيما، مع الانتباه إلى ضرورة استصحاب السياق الذي انتزعتَها منه، حتى لا تقوِّل صاحبها ما لم يخطر على باله، وحتى ينسجم معناها مع مساق كلامك، ويشد من عمران استدلالك العلمي. فالنص المنزوع بمثابة فكرة تحتضر ما إن تغرسها في تربة سياقها المناسب حتى تدب فيها الحياة..

إحكام الاستدلال ودقته: كما أن الكتابة علم يقوم على المعرفة، فهي أيضا فن يتأسس على الذكاء، وأنت تكتب! افترض قارئا له من المعرفة ما يخول له فقه مرادك، وله من الذكاء ما يجعله يقظا في كشف ثغرات بحثك، لذلك، استفت قلبك الفقيه بما كتبتَ، وحاور نفسك الشاهدة عليه، ونازلها معرفيا متقمصا دور القارئ، واسألها: هل ما حررته يبدو مقنعا؟ وهل حاز كفاية التسليم؟ حينها ستكتشف عيوبك قبل أن يقف عليها المطَّلع الحصيف، وكأنك تضمر مسلك علماء الأصول لما استثمروا أسلوب الفنقلة في النظر (فإن قال قائل: قلنا..)، وكذا أسلوب المعارضة في الاستدلال..

حول الدراسات السابقة: أيها الباحث، إذا عزمت على سرد دراسات سابقة لإشكال بحثك، فلتتدثّر بالنسبية في العرض، ولا تقطع بعدم وجود دراسات قبلية، وتوقّع وجدانها في زمن ينتج فيه عدد لا يحصى من البحوث والدراسات، فأنت لن تستطيع الإحاطة بها علما، لأن عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود. ولتقل: “ما وقفتُ عليه من دراسات وفق اطلاعي وبحثي كذا وكذا”..ولا تقطع بقولك: “لا توجد أي دراسة لهذا الإشكال” الذي اخترته للبحث. فأنت هنا قد أُتِيت من جهتين: ضعف مصداقيتك وأمانتك ثم قلة اطلاعك و معرفتك.

  • حول بخس السابقين حقوقهم: ولا تنس أيها الباحث وأنت تذّكر بفضل سابقيك إلى الموضوع، أن تتجنب الوقوع في أعراضهم والتقليل من جهودهم وبخس حقوقهم، أو القدح في أي دراسة سابقة، واتهام صاحبها بالتقصير أو الإساءة إليه، فهذا صنيع لا يليق بالفضلاء من الباحثين بله المبتدئين، كأن تقول مثلا: اطلعت على كتاب فلان لكنه لم يحسن! أو لكنه لم يأت بطائل! فقد يكون الحال خلاف ما قلتَ وحكمتَ، خاصة إذا سبق للقارئ أن اطلع على ذلك الكتاب الذي قصدتَ! ثم ظهر أنك لم تأت بأحسن مما أتى به! وإن لزم إبداء بعض الملاحظ عليه فلتحلّيها بجميل الأدب، ولتلمح إليها بلباقة في الكلام.

كانت هذه جملة من التوجيهات المنهجية التي تقدم بها فضيلة الأستاذ الدكتور الحسان شهيد، جعلها الله في ميزان حسانته، ونشير في ختام هذه الورقات أن هذه التوجيهات قابلة للتحيين كلما جادت صفحة أستاذنا الفاضل بالجديد في هذه المقام وعلى الله قصد السبيل والحمد لله رب العالمين.

بتصرف: كثيرا ما يولع الطلبة والباحثون بالتصرف في نصوص وفقرات منقولة من المصادر والمراجع، ويهمشوا ذلك بقولهم: (بتصرف).

أولا: هذا الصنيع لا يليق بباحث مبتدي وأقصد طلبة الإجازة والماستر، وحتى ببعض منهم في الدكتوراه.

ثانيا: تصرفك يمر عبر أسئلة.

 – أولها: لماذا تصرفت؟ هل لقصد الاختصار أو البيان؟

 – ثانيها: كيف تصرفت؟ هل بالحذف أو الزيادة؟

 – وثالثها: في ماذا تصرفت؟ هل في اللفظ أو المعنى؟.

ومهما كان جوابك عنها فأنت لست أهلا للتصرف فيما لا تملك، لأنك ستغير معاني النص ومرادات الكاتب..فإذا تغير المعنى بحذف نقطة فما بالك بحذف كلمة أو جملة أو بزيادتهما، ناهيك عما في ذلك من جناية تطويع النص حتى تناسب مقالك. لذلك لا أنصحك بهذا الصنيع، والأحوط تجنبه، فتمرس على أصول البحث واحمل نفسك على تجنب ثغراته.. – النقل بالوسيط، عن فلان: البحث استفراغ وسع في طلب فكرة، أو تفتيش عن معلومة، أو إنتاج رأي، فإذا عجزنا وانتهى بنا البحث إلى أفق مسدود أمكننا الاستعانة بالوسائط في حال فقدان الكتاب المصدري أو المرجعي، لكن أن تهمش مثلا بقولك: (ابن خلدون، المقدمة، عن طه عبد الرحمن، تجديد المنهج…،) فهذا إما كسل أو عجز أو جهل، ولا صلة له بمعنى البحث وطرقه، خاصة وأن كتاب المقدمة ذائع منتشر، ثم إن هذا المسلك لا نلجأ إليه إلا في حال عدم وجدان الكتاب الأصل، إما لأنه مفقود أصلا، أو لأنه طبع مرة أو مرتين ونفدت نسخه. وهذا أصبح في حكم المتعذر مع ظهور نسخ الكتب الضوئية.

Comments (0)
Add Comment